سورة التوبة - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قوله تعالى: {يوم يحمى عليها في نار جهنم} أي: على الأموال. قال ابن مسعود: والله ما من رجل يُكوى بكنز، فيوضعُ دينار على دينار ولا درهم على درهم، ولكن يوسَّع جلده، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته. وقال ابن عباس: هي حيَّة تنطوي على جنبيه وجبهته، فتقول: أنا مالك الذي بخلت به.
قوله تعالى: {هذا ما كنزتم} فيه محذوف تقديره: ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم {فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي: عذاب ذلك.
فان قيل: لم خصَّ الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن؟
فالجواب: أن هذه المواضع مجوَّفة، فيصل الحر إلى أجوافها، بخلاف اليد والرجل. وكان أبو ذرٍّ يقول: بشر الكنَّازين بكيّ في الجباه وكيّ في الجنوب وكيٍّ في الظهور، حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم. وجواب آخر: وهو أن الغنيَّ إذا رأى الفقير، انقبض؛ وإذا ضمه وإياه مجلس، ازورّ عنه ووِّلاه ظهره، قاله أبو بكر الوراق.


قوله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله} قال المفسرون: نزلت هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله، فربما وقع حجهم في رمضان، وربما وقع في شوال، إلى غير ذلك؛ وكانوا يستحلُّون المحرَّم عاماً، ويحرِّمون مكانه صفر، وتارة يحرِّمون المحرَّم ويستحلُّون صفر. قال الزجاج: أعلم الله عز وجل أن عدد شهور المسلمين التي تُعُبِّدوا بأن يجعلوه لسنتهم: اثنا عشر شهراً على منازل القمر؛ فجعل حجهم وأعيادهم على هذا العدد، فتارة يكون الحج والصوم في الشتاء، وتارة في الصيف، بخلاف ما يعتمده أهل الكتاب، فانهم يعملون على أن السنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوماً وبعض يوم. وجمهور القراء على فتح عين {اثنا عشر}. وقرأ أبو جعفر: اثنا عشر، وأحد عْشر، وتسعة عْشر، بسكون العين فيهن.
قوله تعالى: {في كتاب الله} أي: في اللوح المحفوظ. قال ابن عباس: في الإمام الذي عند الله، كتبه: {يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم} وفيها قولان:
أحدهما: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله الأكثرون. وقال القاضي أبو يعلى: إنما سماها حُرُماً: لمعنيين. أحدهما: تحريم القتال فيها، وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون ذلك أيضاً. والثاني: لتعظيم انتهاك المحارم فيها أشدَّ من تعظيمه في غيرها، وكذلك تعظيم الطاعات فيها.
والثاني: انها الأشهُر التي أُجِّل المشركون فيها للسياحة، ذكره ابن قتيبة.
قوله تعالى: {ذلك الدِّين القيِّم} فيه قولان:
أحدهما: ذلك القضاء المستقيم، قاله ابن عباس.
والثاني: ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: {فلا تظلموا فيهن أنفسَكم} اختلفوا في كناية {فيهنَّ} على قولين:
أحدهما: أنها تعود على الاثني عشر شهراً، قاله ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى: لا تجعلوا حرامها حلالاً، ولا حلالها حراماً، كفعل أهل النسيء.
والثاني: أنها ترجع إلى الأربعة الحرم، وهو قول قتادة، والفراء؛ واحتج بأن العرب تقول لما بين الثلاثة إلى العشرة: لثلاث ليال خَلَوْنَ، وأيام خلون، فاذا جُزتَ العشَرة قالوا خلتْ ومضتْ، ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة: هُنَّ، وهؤلاء، فاذا جزتَ العشرة، قالوا: هي، وهذه؛ إرادةَ أن تُعرف سمة القليل من الكثير. وقال ابن الأنباري: العرب تعيد الهاء والنون على القليل من العدد، والهاء والألف على الكثير منه؛ والقلَّة: ما بين الثلاثة إلى العشرة، والكثرة: ما جاوز العشرة. يقولون: وجهتُ إليك أكبُشاً فاذبحْهُنَّ، وكباشاً فاذبحها فلهذا قال: {منها أربعة حرم} وقال: {فلا تظلموا فيهن} لأنه يعني: بقوله: {فيهن} الأربعة. ومن قال من المفسرين: إنه يعني بقوله: {فيهن} الاثني عشر، فانه ممكن؛ لأن العرب ربما جعلت علامة القليل للكثير، وعلامة الكثير للقليل، وعلى قول من قال: ترجع {فيهن} إلى الأربعة، يُخرَّج في معنى الظلم فيهن أربعة أقوال.
أحدها: أنه المعاصي، فتكون فائدة تخصيص النهي عنه بهذه الأشهر، أن شأن المعاصي يعظُم فيها أشدَّ من تعظيمه في غيرها، وذلك لفضلها على ما سواها، كقوله: {وجبريل وميكال} [البقرة: 98] وإن كانا قد دخلا في جملة الملائكة، وقوله: {فاكهة ونخل ورمَّان} [الرحمن: 68] وإن كانا قد دخلا في جملة الفاكهة، وقوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197] وإن كان منهياً عنه في غير الحج، وكما أُمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى وإن كان مأموراً بالمحافظة على غيرها، هذا قول الأكثرين.
والثاني: أن المراد بالظلم فيهنَّ فعل النسيء: وهو تحليل شهر محرَّم، وتحريم شهر حلال، قاله ابن اسحاق.
والثالث: أنه البداية بالقتال فيهن، فيكون المعنى: فلا تظلموا أنفسكم بالقتال فيهن إلا أن تُبدَؤوا بالقتال، قاله مقاتل.
والرابع: أنه ترك القتال فيهن، فيكون المعنى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المحاربة لعدوِّكم، قاله ابن بحر، وهو عكس قول مقاتل. والسرُّ في أن الله تعالى عظَّم بعض الشهور على بعض، ليكون الكفُّ عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها تدريجاً للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعاً.


قوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} الجمهور على همز النسيء ومَدِّه وكسر سينه. وروى شبل عن ابن كثير: {النِّسْءُ} على وزن النِسْع. وفي رواية أخرى عن شبل: {النَّسِيُّ} مشددة الياء من غير همز، وهي قراءة أبي جعفر؛ والمراد بالكلمة: التأخير. قال اللغويون: النسيء: تأخير الشيء. وكانت العرب تحرِّم الأشهر الأربعة، وكان هذا مما تمسَّكت به من ملة إبراهيم، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرَّم للحرب تكون بينهم، فيؤخِّرون تحريم المحرَّم إلى صفر، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضاً إلى الشهر الذي بعده، ثم تتدافع الشهور شهراً بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنَّة كلِّها، فكأنهم يستنسؤون الشهر الحرام ويستقرضونه، فأعلم الله عز وجل أن ذلك زيادة في كفرهم، لأنهم أحلُّوا الحرام، وحرموا الحلال، {ليواطؤوا}: أي: ليوافقوا {عدة ما حرَّم الله} فلا يخرجون من تحريم أربعة، ويقولون: هذه بمنزلة الأربعة الحرم، ولا يبالون بتحليل الحرام، وتحريم الحلال. وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم، قال الفراء: كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصَّدَرَ عن مِنًى، قام رجل من بني كنانة يقال له: نُعيم بن ثعلبة، وكان رئيس الموسم، فيقول: أنا الذي لا أُعابُ ولا أُجابُ ولا يُرَدُّ لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهراً، يريدون: أخِّر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حُرُم لا يُغِيرون فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة فتستدير الشهور كما بيَّنَّا. وقيل: إنما كانوا يستحلُّون المحرَّم عاماً، فاذا كان من قابل ردُّوه إلى تحريمه. قال أبو عبيد: والتفسير الأول أحب إليَّ، لأن هذا القول ليس فيه استدارة. وقال مجاهد: كان أولَ من أظهر النسيء جنادةُ بن عوف الكناني، فوافقت حجَةُ أبي بكر ذا القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل في ذي الحجة، فذلك حين قال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» وقال الكلبي: أول من فعل ذلك نُعيم بن ثعلبة.
قوله تعالى: {يُضَل به الذين كفروا} وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: {يَضِل} بفتح الياء وكسر الضاد، والمعنى: أنهم يكتسبون الضلال به. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {يُضَلُّ} بضم الياء وفتح الضاد، على مالم يُسم فاعله. وقرأ الحسن البصري، ويعقوب إلا الوليد: {يُضِل} بضم الياء وكسر الضاد، وفيه ثلاثة أوجه.
أحدها: يُضِلُّ الله به. والثاني: يُضِلّ الشيطان به، ذكرهما ابن القاسم. والثالث: يُضِلّ به الذين كفروا الناس، لأنهم الذين سنُّوه لهم. قال أبو علي: التقدير: يُضل به الذين كفروا تابعيهم. وقال ابن القاسم: الهاء في {به} راجعة إلى النسيء، وأصل النسيء: المنسوء، أي: المؤخَّر، فينصرف عن مفعول إلى فعيل كما قيل: مطبوخ وطبيخ، ومقدور وقدير، قال: وقيل: الهاء راجعة إلى الظلم، لأن النسيء كَشَفَ تأويل الظلم، فجرى مجرى المظهَر، والأول اختيارنا.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12